رؤية في تدريس النصوص الأدبية
بقلم الدكتور محمد الجاغوب - الجامعة الأردنية
بقلم الدكتور محمد الجاغوب - الجامعة الأردنية
لا بُدّ لمَن يأخذ على عاتقه مَهمّة تدريس النصوص الأدبية أنْ يتساءل: ماذا نريد من النص الأدبي؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لا بُد أن نتذكرَ أنّ للقصيدة القديمة أُسساً موسيقية معروفة، وأنّ للقصيدة الحديثة أُسساً أيضاً ولكنها مختلفة. وأنَ الشاعر القديم كان مُضطراً لاستخدام عدد مِن الألفاظ التي تنتهي بحرف واحد، بينما الشاعر الحديث لا يستطيع البحث عنها، لأنّ كلَ هَـمّه أنْ يُعبّر عن الناس بشكل مفهوم، لذلك يجدر بالمعلم أن يتذكر هذه الأسس، وأن يساعد طلبته على الإلمام بها؛ لأنّ كثيراً منهم يظنون أنّ الشِعر الحديث عبارة عن كلام نثري مرصوف وحسب، بل إنهم لا يُفرّقون بين مفهومي الشعر المرسل والشعر الحر، كما أنّ بعضهم لا يُدرك أنّ شِعر التفعيلة لا يقوم على تفعيلات متساوية في كل شطر وفي كل بيت.
كيف نتعامل مع الأديب؟
إنّ التعامل مع الأديب لا بد أنْ يتم من زاوية فنيّة اللغة التي يستخدمها، والطريقة التي يُقدّم بها قَضيته ومدى قدرته على الإقناع والإثارة، ولا يجوز التعامل مع الأديب من زاويةٍ فكرية أو من باب هل يُناسبنا أو لا يناسبنا، فالمتنبي وأبو نواس شاعران فنانان، ولو سلـّطنا المعيارَ العقائدي أو الخـُلقيَّ عليهما لسقطا، فقصيدة "على قدر أهل العزم" لا يتجاوز ما وردَ فيها قضية الشجاعة، وكل ما قاله المتنبي عن سيف الدولة جاءَ به الشعراء السابقون، والصفات التي أسبغها عليه صفات معروفة ومُكرّرة، لكنّ البراعة عند المتنبي تكمنُ في طريقة تقديمه لهذه الصفات بصور جديدة ومثيرة، ولعل هذا هو سرُّ عظمته، فقوة الشاعر تعتمد على قوة خياله، وقدرته على التصوير والتشويق. لقد تناول المتنبي مفهوم الشجاعة وراح يُقلـّبه من كل النواحي وفي أكثر من بيت في القصيدة، حتى جَعل من صفة الشجاعة ميداناً لعشرات القصائد، وفي قصيدته "على قدر أهل العزم" المذكورة تحدّث عن الشجاعة فيما يقرب من خمسة عشر بيتاً، ثم انتقل إلى وصف المعركة حتى قوله "أتوك يجرون الحديد الخ" ثم يُصور سيف الدولة وقد صَعد بجيشه الى أعلى الجبال حتى وصل أعشاش النسور، وهذه قضية لو أخضعناها للمنطق العلمي لوجدناها مخالفة له؛ لأنّ النسور تبني أعشاشها فعلاً في أماكن شاهقة يصعب على الإنسان أو الحيوان وصولها.
أمّا الصورة الشعرية فتعتمد في الشعر القديم على المطابقة في الصفات المشتركة بين المشبه والمشبه به، بينما هي في الشعر الحديث يصعب إخضاعها والتعامل معها طبقاً لهذا المفهوم؛ فعندما يقول السَيّاب: "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر" تكون الصورة فاسدة، إذ ما وجه الشبه بين العينين والغابة؟ إنّ الصورة في هذا النوع من الشِعر ما عادت تتوخى تفصيلات الأركان، وإنّ قيمتها تكمن في مدى ما تثيره في نفس القارئ من مشاعر وما تعبر عنه من أحاسيس الشاعر، فالشاعر يتوخى التأثير، فغابة النخيل سوداء داكنة غامضة تكتنفها الأسرار، وكذلك عينا المحبوبة، هكذا أراد الشاعر أن يقول .
وعندما يقول نزار "عيناها سُبحان المعبود"، فإنه يرسم صورة، ولو بحثنا عن المشبه و المشبه به فيها لاصطدمنا بجدار من الغرابة، لكنّ الشاعر أراد أن يقول: إن عينيها جميلتان جداً تجعل الناظر إليهما يُسبّح الله، فاختصر. وكذلك نرى قول محمود درويش في قصيدته "أزهار الدم":
" كان الخريف يَمرُّ في لحمي جنازة برتقال، وتساقط الأطفال في قلبي على مهج الرجال" فكيف يمر الخريف في لحم الشاعر؟! وما علاقة الجنازة بالبرتقال؟! إنّ التعامل مع هذه الصورة أيضاً في إطار المفهوم التقليدي للبلاغة يوصلنا إلى باب مغلق، ويحول دون الوصول إلى ما يريد الشاعر.
لعلنا نستنتجُ من خلال الأمثلة السابقة حقيقةً مفادها أنّ التعامل مع الصورة في الشعر الحديث يختلف عن التعامل معها في الشعر القديم، لأنّ الشعر الحديث يعتمد على إيحائية اللفظ وعمق الصورة والرمز، لذلك يجدر بالمعلم أنْ يُرَكِّزَ مع طلبته على عِلم البيان ليس فقط من ناحية تحديد المشبه والمشبه به ونوع التشبيه، بل من ناحية الفهم والتمييز والتذوق والاستمتاع، ومعرفة كيف يُصور الشاعر وكيف يُقدم المعنى الواحد بعشرات الصور كما فعل المتنبي، ومدى قدرة هذه الصُوَر على إثارة مشاعرهم وتحسّس الجوانب الجمالية في النص من خلال أسئلة يطرحها المعلم مثل: إلى أي حد أثرّ فيك هذا النص؟ ما القضايا التي أثارتك؟ والأهم من ذلك أنْ يبتعد الطلبة عن عبودية الفكرة والمواقف الشخصية من الشاعر والقضية التي يطرحها؛ لأنّ كثيراً من الشعراء قد لفـّوا أنفسَهم بعباءات وطنية أو دينية وسرّبوا من تحتها ضعفاً فنياً كثيراً.
ماذا نطلب من الأديب؟ هل نطلب منه أن يكون صادقاً صِدقا مطلقاً؟ ثم ما الصلة بين النص والواقع؟ إنّ كل أديب في مجتمعنا وفي وطننا يرتبط بالواقع بطريقة أو بأخرى، لكن كيف ينقل هذا الواقع؟ إنّ النقل الحَرفي للواقع مطلوب من الصحفي ومن المؤرخ، أما الأديب فله رؤيته واجتهاداته، فهو يفسر الأحداث من خلال منظوره الخاص، والدليل على ذلك أننا نجد أديـبـَين يعيشان في عصر واحد وفي مدينة واحدة لكنهما يكتبان بطريقتين مختلفتين، ومثال ذلك كل من: نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، فكلاهما من أبناء العصر الحديث ومن سكان القاهرة لكن كتاباتهما مختلفة باختلاف الموقف والرؤية لكل منهم، فنجيب يصور واقع الطبقة الفقيرة في بولاق، وإحسان يُصور واقع الطبقة المترفة في الزمالك، مع العِلم أنّ الفارق المكاني بينهما قصير. وزبدة القول في هذا تدل على أنّ تصوير الأديب للواقع هو تصويرنسبي.
ولو عدنا إلى قصيدة "أزهار الدم" لوجدناها ترتبط بحدَث تاريخي جرى عندما قامت إسرائيل بمحاصرة قرية "كفر قاسم" ثم إقتحامها لها عند عودة المزارعين من الحقول، حيث أطلقت النار عليهم فقتلت تسعة وأربعين شخصاً وأصابت عددًا آخر، وقد ثار احتجاجٌ على ذلك في الكنيست وتم التحقيق في الحادث وانتهى الأمر بطريقة ما. هذه هي الحادثة، كان محمود في ذلك الوقت لا يزال صبياً، وعندما نضجَ محمود الشاعر وتكوّن له موقف كتب قصيدته تلك على شكل قصائد ستٍ: الأولى "مغني الدم" والثانية "حوارٌ في تشرين" حيث تسقط الأوراق وسقطت الضحايا أيضاً، والثالثة "الموت مجاناً" وقد تضمنت إشارات إلى الدم المسفوك دون التوقف عند جزئيات الحدث، والرابعة "القتيل رقم 18" والخامسة "عيون الموتى على الأبواب" والسادسة "السجين والقمر" والتي تخلو من أي إشارة مباشرة للواقع.
ولو طبقنا مقولة : أنّ الأدب يؤرخ للأحداث لوجدناها غير دقيقة، فإلى أي مدى التزم محمود بالتاريخ؟! إنّ محمود لا يؤرخ في شعره ولكنه يُعبر عن نفسه تجاه أمرٍ ما، مع إشارات تاريخية خفيفة، ولو أنه التزم بالتاريخ لأصبحَ الشعر تقريراً حَرفياً، وهذا عمل الصحفي الذي يصور الواقع. لذلك لا يجوز التعامل مع النص الأدبي على أنه وثيقة تاريخية، وينبغي على المعلم أن يُوضح لطلبته نوع النص الذي يقرؤون، وأن يُبـيّن لهم مرتكزات الشعر الحديث، وأن يضعهم في جو النص، ثم يتركهم يتحسسون الجوانب الجمالية فيه ويعالجونها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق