الوطن العربي وحدة جغرافية متصلة لا تفصل بين أقاليمه حواجز طبيعية، يمتاز بموقعه المتوسط بين القارات وبثرواته الهائلة والمنوّعة، يمتد موقعه من الخليج العربي شرقا حتى المحيط الأطلسي غربا ومساحته تقارب الخمسة عشر مليونا من الكيلومترات المربعة، عدد سكانه يفوق الثلاثمئة مليون نسمة تجمعهم لغة واحدة وتاريخ واحد. ظلّ عبر التاريخ يمثل وحدة سياسية واحدة منذ عهود الخلافة العربية الإسلامية حتى نهاية العهد العثماني. شهدتْ أرضه ظهور الرسالات السماوية ومنها شعّ نور الهداية. ما أنْ انتهتْ الحرب العالمية الأولى حتى أسفرتْ عن انتقال هذا الوطن من حالة الاندماج الوحدوي في ظل الإدارة العثمانية إلى حالة التشظي والانقسام في ظل الاستعمار الأوروبي، لكنّ هاجس الوحدة ظلّ يراود أبناء هذا الوطن على مدار قرن مضى من الزمان؛ لأنهم مقتنعون بأنّ وطنهم يتوفر له من عوامل الوحدة أكثر ممّا يتوفر من عوامل الفرقة والتشرذم. قامت فيه حركات تحرّر وثورات عديدة غالبا ما كانت تتوّج بخروج المستعمر وإقامه حكومات عربية ترفع شعارات وطنية براقة؛ صَفـّق الناس للحرية والوحدة، وكتبَ الشعراء فيها أجمل قصائدهم، وانبرى المعلمون والصحفيون يُعمّقون مفهومها والإلحاح على تحقيقها.
أنشئتْ جامعة الدول العربية عام 1945، رحَلَ الاستعمار الأوروبي عن كثير من بقاع الوطن العربي واستقلـّتْ ممالك وجمهوريات باستثناء فلسطين التي أقيمتْ على أنقاضها دولة إسرائيل. شعَرَ العرب أنّ ذلك لم يكنْ ليحدث لولا فرقتهم التي أذهبتْ ريحَهم. في أواخرعام 1948 عقد الفلسطينيون ثلاثة مؤتمرات وطنية في عمان وأريحا ونابلس قرروا فيها إقامة اتحاد عربي بين ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وشرق الأردن بقيادة الملك عبد الله الأول ابن الحسين عُرف باسم المملكة الأردنية الهاشمية. استمرتْ هذه التجربة الوحدوية حتى يونيو حزيران 1967 حيث احتلت القوات الإسرائيلية الضفة الغربية من المملكة. غير أنّ القيادة الأردنية قررتْ الحفاظ على الروابط القانونية والإدارية بين الضفتين، واستمر الحال كذلك حتى عام 1988 حيث ألقى الملك حسين خطابا أعلن فيه فكّ عُرى تلك الوحدة، غير أنّ الروح الوحدوية مازالت تسود العلاقة بين الشعبين الأردني والفلسطيني رغم الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية.
في العام 1952 انطلقتْ ثورة الضباط الأحرار في مصر ضد حُكم الملك فاروق؛ فصفّق لها أحرار العرب في كل مكان. في عام 1956م أعلن جمال عبد الناصر تأميمَ قناة السويس فارتفعتْ الروح المعنوية لدى الجماهير المصرية والعربية، جاشتْ مشاعرُ العرب والتهبتْ حناجرهم بالهتاف لعبد الناصر متيمّنين فيه أملَ توحيد الأمة والوطن. وقعَ العدوان الثلاثي على مصر في العام ذاته، شاركتْ فيه إسرائيل إلى جانب بريطانيا وفرنسا كردة فعل على تأميم القناة، قاومتْ مصر وصمدَ عبد الناصر، وقف الرأيُ العام العربي والدولي إلى جانب مصر فرُدَّ كيدُ العدوان وزاد تمحورُ الشعوب العربية حول القيادة المصرية.
في عام 1958م اتفق الرئيسان شكري القوتللي وجمال عبد الناصر على توحيد مصر وسوريا تحت مُسمّى الجمهورية العربية المتحدة، طارتْ الجماهير في عواصم العروبة فرَحًا بدولة الوحدة وطالبت الحكومات العربية بالانضمام إليها. قويَتْ شوكة الثورة الجزائرية وثورة الجنوب اليمني المحتل من قبل بريطانيا، وانطلقتْ ثورة سبتمبر في شمال اليمن بقيادة المشير عبد الله السلال ضدّ حُكم الأئمة، دعَمَتها حكومة الجمهورية العربية المتحدة ماديّا وإعلاميّا، هتفتْ لها وللجزائر ولفلسطين حناجر فايدة كامل وأحمد سعيد وجلال مُعَوّض ومحمد عُروق. كسرَ جمال عبد الناصر احتكارَ السلاح وشرعَ في بناء السد العالي بدعم من حكومة الاتحاد السوفييتي. شهد العام 1958م إقامة اتحادٍ عربيٍ هاشمي ضمّ مملكتي العراق والأردن، لكنّ هذه التجربة الوحدوية لم تدم طويلا حيث انتهت بقيام الزعيم عبد الكريم قاسم بثورة 14 تموز من العام ذاته في بغداد أنهت النظام الملكي بقيادة الملك فيصل الثاني ونوري السعيد.
لم ترُقْ هذه الإنجازات الوحدوية ولا الهتافات الجماهيرية لأعداء الأمة العربية، تضافرتْ القوى الاستعمارية وإسرائيل والرجعية العربية والقوى المضادة للثورة فكان انفصال سورية عن مصر يوم 28 سبتمبر 1961. واصلَ عبد الناصر الصمود ورفضَ الاعتراف بالانفصال وأصرَّ على استمرار مُسمّى الجمهورية العربية المتحدة. سعَتْ قـُوى الرجعية العربية لوَأدِ ثورة السلال في اليمن فكان انحياز مصر لتلك الثورة بالمال والجُند والسلاح. تورّطتْ مصرُ في حرب اليمن، استغلتْ إسرائيلُ انفصام عُرى الوحدة والانشغال المصري في اليمن فراحتْ تعدُ لعدوان حزيران 1967م. قامتْ بتحويل مجرى نهر الأردن من منابعه الشمالية نحو صحراء النقب، دعا عبد الناصر لقمة عربية قرّرَ فيها الرؤساء والملوك بناء سَد المخيبة على الحدود السورية الأردنية وفي نقطة تسبق محطة التحويل الإسرائيلية. تحرّشتْ إسرائيلُ بسورية، ردّ عبد الناصر بالإعلان أن أيّ عدوان على سورية هو بمثابة عدوان على مصر. أغلقَ خليجَ العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية وأخرجَ قوات الطوارئ الدولية من قطاع غزة. تفاقمتْ الأمور وتبيّن أنّ المنطقة تسير باتجاه الحرب. وقفَ العربُ ثانية إلى جانب مصر وعُقدَ عددٌ من اتفاقيات الدفاع العربي المشترك بين الدول العربية.
بدأتْ إسرائيل عدوانها يوم 5/6/1967، تجلـّتْ وحدة العرب من جديد فخاضتْ الحربَ إلى جانب مصر كلٌ من سورية والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية بشكل رئيس، وشاركتْ دول عربية أخرى كالعراق والكويت والجزائر والمغرب بشكل مساند. ربحَتْ إسرائيل المعركة، وخسرتْ مصرُ صحراء سيناء وقطاعَ غزة. وخسرتْ سورية هضبة الجولان، كما خسرَ الأردنُ ضفتـَه الغربية. لكنّ العربَ لم يخسروا الإرادة فقال عبد الناصر قولته المشهورة: ما أخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة ودعا إلى قمة عربية كانت لاءاتُ الخرطوم المشهورة أهمَّ قراراتها: لا صلحَ لا اعتراف لا تفاوض مع إسرائيل.
قرّرتْ مصر وسورية والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية إعادة بناء قواتها بدعم من الأشقاء العرب؛ فكانت المقاومة الفلسطينية على طول نهر الأردن، وكانت حربُ الاستنزاف على طول قناة السويس، وكانت معركة الكرامة التي تحالف فيها الجيش العربي الأردني مع قوات الثورة الفلسطينية يوم 21/3/1968م حقـّقَ فيها العربُ أول انتصار على الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر. وكانت انتصارات مصرية في جبهة السويس وسيناء حيث دمّر المصريون لإسرائيل أهمّ قطعتين في قواتها البحرية وهما: المدمرة إيلات والغواصة داكار، وكبّدوا الإسرائيليين خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. كانت حرب الاستنزاف بمثابة الاستعداد لحرب أكتوبر 1973.
توفيّ جمال عبد الناصر يوم 28/9/1970 فتركتْ وفاته حَسرة وألمًا لا يقلان عن ألم الهزيمة عام 1967، تولـّى أنور السادات قيادة مصر، ألغى اسم الجمهورية العربية المتحدة وأطلق على الإقليم المصري اسم جمهورية مصر العربية واعتقلَ عددا من رفاق عبد الناصر. صرّح السادات أنّ عام 1971م سيكون عام الحَسم للقضية الفلسطينية إنْ سِلمًا وإنْ حربًا، التقى الملكَ حسين بن طلال في الإسكندرية فأصدرا ما عُرفَ وقتها ببيان الإسكندرية الذي ينص على مشروع إقامة المملكة العربية المتحدة بين فلسطين والأردن. لكنّ السادات ظلّ يواصل الإعداد مع حافظ الأسد لحَرب التحرير.
في 17/4/ 1971م اتفقَ أنور السادات وحافظ الأسد ومعمر القذافي على إقامة اتحاد عربي لجمهورياتهم ليكون نواة لوحدة عربية شاملة. في الثاني من ديسمبر1971 اجتمعَ زايد بن سلطان آل نهيان شيخُ إمارة أبو ظبي وراشد بن سعيد آل مكتوم شيخُ إمارة دبي في ربوة السَمحة الواقعة بين الإمارتين واتفقا على إقامة اتحادٍ عربي يضم إمارات الخليج العربي التسعة، كان هذا العدد يشمل مشيخات قطر والبحرين، لكنّ شيْخَيهِما انسحبا من منظومة الاتحاد المقترح بهدف تأسيس دول مستقلة. بقيتْ سبعُ إمارات في تلك المنظومة، هي: أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة والفجيرة ومنها تشكلتْ دولة الإمارات العربية المتحدة، انضمّتْ الدولة الجديدة لجامعة الدول العربية ولهيئة الأمم المتحدة، ومازالت تجربة هذا الاتحاد من التجارب الوحدوية الناجحة التي عرَفها التاريخ العربي.
في عام 1973م كانت حربُ أكتوبر، وكان عبورُ الجيش المصري لقناة السويس بقياد الفريق سعد الدين الشاذلي، وكان اجتياح الجيش العربي السوري لهضبة الجولان والضرب في العمق الإسرائيلي. طُبّقتْ معاهدات الدفاع العربي المشترك بشكل جيد، وتجلـّى التضامن العربي في أبهى صوره، هبّ العربُ كافة لنصرة مصر وسورية فحاربتْ قوّات عراقية وأردنية إلى جانب الجيش السوري، وحاربت قوات كويتية وجزائرية ومغربية إلى جانب الجيش المصري. أعلنَ الملكُ السعودي فيصل بن عبد العزيز قطعَ إمدادات النفط عن دول الغرب الاستعماري. تآزرتْ الأمة العربية في إنشاء الهيئة العربية للتصنيع الحربي فأنتجتْ أسلحة قتالية خفيفة وثقيلة سدّت النقص لدى الجيوش العربية.
ظلّ التضامنُ العربيُ متماسكا إلى أنْ غيّرَ السادات من سياساته، دعا لكسر الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل، زارَ القدسَ المحتلة وخطبَ في الكنيست قبل تحقيق السلام وقبل الانسحاب من الأراضي العربية. ثم كانت مفاوضات كامب ديفيد فمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تنص على الاعتراف بإسرائيل دون التشاور والتنسيق مع الأطراف العربية الأخرى، وكانت خروجا على لاءات الخرطوم المشهورة؛ فقاطعَ العربُ مصرَ وأخرجوا منها مَقرَّ جامعة الدول العربية ونقلوه إلى تونس واختاروا التونسي الشاذلي القليبي كأول أمين عام لتلك الجامعة من خارج مصر. وبذلك تتابعت الخدوش والشروخ في الجسد العربي وتزلزتْ أركان الوحدة العربية.
اغتيل أنور السادات في 6 أكتوبر 1981 وخلفـَه نائبُه حسني مبارك، فبدا كمن يحاول رأبَ الصدع العربي وكمن يُحاولُ التصلبَ في وجه العلاقات مع إسرائيل فاستعادتْ مصرُ شيئا من ثقة العرب، عقدَ القادة العرب قمتهم في بغداد عام 1986 وقرروا العودة إلى مصر أو إعادة مصر للصف العربي، وأعادوا لها مقر جامعة الدول العربية. قام العربُ بمحاولات وحدوية من نوع جديد، تحدّثَ الملك حسين عن توحيد الوطن العربي في أربع كتل جغرافية كبيرة هي: الجزيرة العربية والهلال الخصيب ووادي النيل والمغرب العربي، ودعا إلى إنشاء فيلق عسكري عربي موحد للتدخّل السريع وحماية حدود الوطن العربي في حال الخطر.
في الثاني والعشرين من مايو أيار عام 1990 أعلنَ اليمنيون توحيدَ اليمن بشطريه الشمالي والجنوبي تحت مسمى الجمهورية اليمنية، كان الرئيس علي عبد الله صالح رئيسا للجمهمورية وحيدر أبو بكر العطاس رئيسا لأول مجلس وزراء في دولة الوحدة، وبموجب ذلك القرار اختفتْ دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من الوجود. غير أنّ الجنوبيين حاولوا الرجوع عن تلك الوحدة فكانت لهم محاولة انفصال عام 1994 قمعَها علي عبد الله صالح بالقوة وثبّتَ دعائم الاتحاد من جديد.
ظهرتْ مجالس التعاون العربي، كمجلس التعاون الخليجي الذي يضمّ ستّ دول خليجية تحكمها أسرٌ وعائلات متقاربة متآلفة. ومجلس التعاون العربي الذي يضمُ مصر والعراق واليمن والأردن بقيادة كل من حسني مبارك وصدام حسين وعلي عبد الله صالح والملك حسين بن طلال. ومجلس التعاون المغاربي الذي يضمُ ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. لم يدُم عهد مجلس التعاون العربي سوى سنتين على وجه التقريب، حيث اختلف العراق والكويت على حقل الرميلة النفطي وساءت العلاقات بينهما، اجتمع وفدا البلدين في مؤتمر جدة يوم 1/8/1990، لم يتفقا على شيء وانهارت المفاوضات بينهما.
في الهزيع الأخير من ليل 2/8/1990 اجتاح الجيش العراقي الكويت مُطلِقا على ذلك الاجتياح يوم النداء العظيم، فرّ أمراءُ الكويت إلى السعودية وغادر المقيمون على أرضها إلى أوطانهم. أصدر الرئيسُ العراقي صدام حسين مرسوما بضم الكويت لجمهورية العراق واعتبرها واحدة من محافظاته التسع عشرة. كان ذلك أشبه بالزلزال الذي هزّ أركان التضامن العربي. حاولَ الملك حسين إقناع الرئيس العراقي بالعودة عن الكويت، واعتماد حلٍّ سِلميٍ عربي للأزمة درءًا لأيّ تدخلٍ أجنبي خارجي وحفاظا على روح التضامن العربي وكادَ أن ينجحَ في ذلك. لكنّ الرئيس المصري حسني مبارك كان يُدبرُ أمرا آخر، إذ دعا لمؤتمر قمة عربي في القاهرة تحتَ شعار أسماهُ نصرة الكويت، وطالب في تلك القمة بتدخل عسكري دولي لإخراج العراق من الكويت فانفرط بذلك عقد مجلس التعاون العربي وانقسمَ العربُ إلى معسكرين متناحرين.
انحاز اليمنُ والأردن والسودان ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب العراق، واصطفت دول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب الكويت. تفاقمت الأمور بشكل متسارع، العراق يرفض مغادرة الكويت ويطلب من البعثات الدبلوماسية فيها أن تنقلَ مقراتِها إلى العاصمة بغداد. دولُ الخليج تستعين بالولايات المتحدة الأمريكية فتفتح أجواءَها وصحراءَها وبحارَها لقوات الغزو الأمريكي تمهيدا لضرب العراق. القوات المصرية والسورية تـُعسكِرُ في منطقة حفر الباطن السعودية وتنضمُ إلى قوات الغزو الأمريكية. يبدأ العدوان الأمريكي الأطلسي على العراق يوم 17/1/1991. العراق يَخسرُ الحربَ ويخرجُ من الكويت. أمريكا تفرض على العراق حصارا ظالما يستمرّ ثلاثة عشر عاما تشارك فيه دول إعلان دمشق، وهي دول الخليج الست بالإضافة إلى مصر وسورية. دول الخليج تغضب على حلفاء العراق العرب وتصفهم بمحور الضِد وتفرض عليهم عقوبات اقتصادية. وإذا كانت حَربُ الكويت عام 1991 مُنهكة للعراق فإنها كانت قاصمة لظهر التضامن العربي أيضا؛ توقفتْ مؤتمرات القمة العربية لفترة طويلة وضَعُفَ التأييدُ العربي لفلسطين ولبنان. وأذعنتْ الحكومات العربية لقرارات مجلس الأمن الدولي فشاركتْ في تطبيق الحصار على العراق طيلة ثلاث عشرة سنة.
تقوقعَ الرئيسُ المصري حسني مبارك على نفسه في شرم الشيخ سنين طويلة وأخلى الساحة لبغاث الطير تملؤها، تراجعَ الدورُ القياديُ المصري للأمة العربية في عهده لأسباب مختلفة، ليست أقلها قيود اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل. لم تعُد مصرُ محورَ القرار العربي لا في الدعوة لعقد القمم العربية ولا في فرض مواعيدها وأماكنها، ولا في حَلّ النزاعات العربية. وإذا كان توقيع اتفاقية (كامب ديفيد) بين مصر وإسرائيل قد زعزعَ الصف العربي فإنّ توقيع اتفاقيَتـَي (أوسلو) بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل و(وادي عربة) بين الأردن وإسرائيل قد انعكسَ سلبا على الوضع العربي العام، فقد تسارعت دولٌ عربية بعيدة عن خطوط المواجهة مع إسرائيل لتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية.
ما بين عامي 1991 و2003 لم تترك الولايات المتحدة الأمريكية العراقَ وشأنه بل دبّرتْ له المكائد، عزّزتْ وجودَها العسكري في دول الخليج العربي، وألزمَتْ الدولَ العربية بمعاداة العراق، فمن تجويع شعبه بالحصار وقتل أبنائه بالغارات الجوية والصاروخية المتقطعة إلى إشغاله بفرق التفتيش الباحثة عن أسلحة الدمار الشامل. وكانت الطامة الكبرى عام 2003 حيث نسبتْ للعراق التسلحَ بأسلحة محظورة، واتهمتْ قيادَته بممارسة الإبادة الجماعية ضد شرائح من أبناء العراق إلى أن وصلَ الصَلفُ السياسيُ بالرئيس الأمريكي جورج بوش الصغير أن يطلب من صدام حسين رئيس جمهورية العراق أن يرحلَ عن العراق، ووصلت السفاهة ببعض العرب أن يؤيدوا هذا المطلب الأمريكي.
وجّه صدام حسين صفعة إهانة لكل هؤلاء برفضه الرحيل عن العراق. ولمّا كانت ليلة العشرين من مارس آذار 2003 أمطرتْ أمريكا وأعوانـُها مدينة بغداد بتسعين صاروخا، توقـّعَ الأمريكيون أن يستسلمَ صدام حسين بفعل هذه اللكمة الصاروخية، لكنه خرجَ عليهم في اليوم التالي قائلا بكلِّ عنفوان الشجاعة: أطلقْ لها السيفَ لا خوفٌ ولا وجَلُ أطلقْ لها السيفَ وليشهد لها زُحَلُ، واندلعت الحرب. استخدمت أمريكا كل جبروتها العسكري، استخدمتْ الأرضَ العربية والأجواء العربية والدعمَ العربي المالي والإعلامي لضربِ العراق. في التاسع من إبريل نيسان دخلتْ علوج الفرنجة عاصمة الرشيد، جهزوا حفلا صوّروا خلاله دبابة أمريكية تــَشدُ تمثالَ صدام حسين مِن قامتِه وتطيح به في مشهد استعراضي فرحَ له القادة العرب وبعض الشعوب العربية وشراذمُ من العملاء العراقيين الذين جاؤوا من عواصم الغرب على ظهور الدبابات الأمريكية لتسلـّم حُكم العراق بعد صدام حسين. انتقل صدام وقيادته وجيشه لمقاومة الاحتلال تحت الأرض، قاتلَ أبناؤه وحفيده القوات الأمريكية حتى استشهدوا، وقاتلَ هو حتى اعتـُقل واعتـُقِلَ أنصاره تباعا. زجّتهُم أمريكا في محاكمات صورية ورفعتهم واحدا بعد الآخر على أعواد المشانق فدخلوا التاريخ شهداء مُبجلين ولم تنمْ أعينُ الجبناء، وغاصتْ أمريكا في المستنقع العراقي وما تزال.
بالإضافة إلى هذه الحوادث المأساويّة التي ألمّت بالوطن العربي استأسَدتْ بُغاثُ الطير في هذا الوطن مُستقوية بالقواعد الأمريكية ومُستندة إلى كنوزها الهائلة ومُستغلة غيابَ الدور السياسي المصري والثقل العسكري العراقي وراحت تجول وتصول؛ فكادت للمقاومة اللبنانية كيدًا، وتطاولتْ على قادة الثورة الفلسطينية، وجاهرتْ بصداقتها لقادة إسرائيل. تدخّلتْ في الشأن الداخلي لكثير من الدول العربية البعيدة والقريبة، روّجتْ لتقسيم السودان ولانشقاق الصف الفلسطيني وللغزو الأطلسي الصليبي لليبيا. ونصّبتْ نفسَها وسيطًا وحَكمـًا دوليا يتدخّلُ لفضّ المنازعات بين الدول وبين القبائل وحتى بين المرء وزوجه.
في مطلع العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين بدأ الماردُ العربي يتملمَلُ، ثمّ ينتفضُ وكأنما مسَّته صاعقة من كهرباء، خرجَ هذا الماردُ من قـُمقـُمه، أطاح التونسيون رئيسَهم بن علي، وبعد أسبوعين خلعَ المصريون رئيسَهم حسني. واصلت الجماهير العربية ثورتها في البحرين واليمن وليبيا وغيرها. فوجئتْ أمريكا وإسرائيل بهذه الصحوة العربية، فراحت تحاول تطويقها ما تستطيع إلى ذلك سبيلا، في محاولة للإبقاء على ذيول الأنظمة المترنحة، أوعزتْ للأحزاب والجماعات العربية والإسلامية المهترئة وللشخصيات ذات الوجوه الكالحة وللدعاة المسلمين المنافقين الفاسدين ليسرقوا الثورة مِن شباب الأمة الثائر، لكنّ جيلَ الثورة الجديد مازال لهم بالمرصاد يتصدّى لمخططاتهم بملايين الصدور العارية والمسالمة، رافعا شعارات الحق: نعم للإصلاح والعدالة والحرية ووحدة الأمة. لا للفساد والاستبداد ومصارع الاستعباد. وتظلّ الأيامُ القادمة سجالا بين الشعوب العربية وأعدائها، وتظلُّ الحَكمَ الشاهدَ على مُجريات الأحداث وتتابعها، كما تظلُّ وحدة الوطن العربي حُلـُمًا جميلا يراود الأجيال العربية تتناقله جيلا فجيلا إلى أن يُكتبَ له التحقـُق.
د. محمد الجاغوب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق