إنْ تفسُد الرأسُ دَبَّ الفسادُ في الأوصال ِ
د. محمد الجاغوب
عائشة: ما الحالُ يابنَ سِراج؟
ابن سراج: أظنّها شرَّ حال ِ
الشعبُ قد ضاق ذرعًا بهذه الأحوال ِ
هَوَى به الجوعُ روحًا
عائشة: هذا نذيرُ الوَبال ِ
ابنُ سِراج: لا تيأسي إنّ فيه خلائقَ الأبطال ِ
لولا خيانة رَهْطٍ منه شديدِ المِحال ِ
عائشة: بل قـُلْ خيانة ُ وال ٍ دكـّـتهُ كالزلزال ِ
قـُلـْها، فمَنْ قالَ حقـًا دوّى به لم يُبال ِ
إنْ تفسُد الرأسُ دَبَّ الفسادُ في الأوصال ِ
الأبيات الشعرية السابقة وردَتْ في الفصل الأخير مِن مسرحية شِعرية عنوانها (غروب الأندلس) للشاعر العربي الكبير عزيز أباظة. وهي تشكلُ حِوارًا بين شخصيتين هما: عائشة وابن سِراج. ويتضح من سياقها أنّ الشعبَ في مدينة غرناطة يعيش حالة سيّئة من الخوف والفقر ِ والجوع والترقب لهجوم الإسبان على المدينة، وأنّ عائشة تعتبر ذلك نذير شؤم ٍ وسوء عاقبة، لكنّ ابنَ سراج يُحاول التخفيف من قلقها بقوله: إنّ هذا الشعبَ صبورٌ وبَطلٌ لولا خيانة نفر ٍ من الناس المُتسلطين على مقدراته. وسرعان ما تلتقط عائشة هذا التلميح بخيانة ملك غرناطة وفساد بطانته وشدة تآمرهم على شعبهم، وتـُحيله إلى قول ٍ صريح بقولها: " بلْ قـُلْ خِيانة ُ وال ٍ دَكته كالزلزال ِ"، وتطلبُ من ابن سراج أن يُصرّحَ بهذه الحقيقة المُرّة، وأن يقولها علانية لأنّ قولة الحق يجب أن تكون مُدوّية دون خوف من العواقب، وعائشة هذه مواطنة عربية شريفة مخلصة لوطنها وأمتها تـُشخصُ الداء الحقيقي وتـُقرّرُ أنّ الفسادَ آفة ٌ قاتلة أصابت ملك البلاد وحاشيته وبطانته وزبانيته ثم انتقلتْ إلى سائر أجزاء جسد الأمة، والشاهد في ذلك قولـُها: " إنْ تفسُد الرأسُ دَبَّ الفسادُ في الأوصال ِ". وأنّ معالجة هذا الفساد ينبغي أن تبدأ من قمة الهرم وليس من قاعدته الشعبية.
وما مِن شك في أنّ الشاعر أباظة عندما كتب هذه المسرحية كان يسعى لإسقاط أحداثها على الوطن العربي الذي يشهد حالة مماثلة من الفساد والظلم والضعف أدّت إلى اتساع الهوّة بين الطبقات الحاكمة بأساليب ديكتاتورية وشمولية سرمدية وبين طبقة الجماهير المحكومة، وأنّ هذا الفساد والظلم والضعف أدّى إلى تمزيق الوطن وسقوط أجزاء كثيرة منه في قبضة المستعمرين. والمعروف أنّ الوطن العربي يشهد منذ مطلع العام 2011 ثورات غضب عارم في العديد من أقطاره تتفاوت شدتها بحسب الظروف المحلية والدولية المحيطة بكل قـُطر منه. وأنّ هذه الثورات تطالب بالتغيير والإصلاح، وأنّ أنظمة الحُكم ترفض التغيير وتتظاهر بقبول الإصلاح ككلمة حق يُرادُ بها باطل لمخادعة الشعب ريثما تهدأ حالة الغضب التي تمورُ فيه. ولذلك فإنّ المتتبعَ للأحداث يرى أنّ بعض الحكومات العربية تتعظ ُبغيرها فتسلك طرقا قصيرة لتهدئة شعوبها عن طريق إغراقها بالعطايا والهبات والمكرمات التي سرعان ما ينبري لها المنافقون من الشعراء والصحفيين وخطباء المنابر بالمديح والثناء وتصويرها على أنها الترياق الذي سيقيل عثرة الأمة. ويرى المتتبعُ أيضا أنّ بعضا من تلك الحكومات تلجأ للخداع فتدّعي محاربة الفساد وتبدأ بالبحث عن سارق بيضة أو دجاجة أو رغيف خبز، وتغضّ الطرف عن عِلية القوم الذين يسرقون بالمليارات ويهدرون أموال الأمة في لهوهِم وترفِهم وفجورهِم وفي محاباتهم لأعداء الأمة. كما أنّ حكومات أخرى تأخذها العِزة بالإثم وترفض الإصلاح كرفضها للتغيير فتمعن في قهر الشعوب والتنكيل بها على أيدي الجلاوزة والجلادين ظنا منها أنّ لغة العقاب ستجدي نفعا أكثر من لغة الثواب التي اتبعتها حكومات العطايا والهبات والمكرمات.
من أين سنأتي بضمائر حية من فقهاء الأمة وعلمائها وشعرائها وخطبائها من أمثال أبي عمرو الزاهد الذي دخل على أبي جعفر المنصور ليعظه وقال له: إنّ من وراء بابك نيرانـًا تتأججُ من شدة الظلم والجور، فيبكي المنصور ويرمي للفقيه بخاتم الخلافة ويقول له: ادعُ أصحابك مِن العلماء واحكموا بين الناس بما أمرَ الله. من أين سنأتي بهذه الضمائر الحية ونحن نرى الصحافة العربية والفضائيات العربية والمنابر الدينية تصولُ فيها أقلام الإعلاميين والشعراء والخطباء المنافقين الضالين المُضلِلين الذين يُزيّنون للفاسدين سوءَ عملهم. ومن أين تأتينا الأقلام الحرة ما دامت حرية التعبير منخنقة في الوطن العربي وما دامت النخبُ الواعية تخشى على مصالحها ومصائرها من عاديات الأيام. لكنّ الشعوبَ لاتخافُ سياسة الأحلاف، وقرارُها سيّافٌ مُصدّق البرهان، تهوي به على السمسار بالصارم البتـّار الذي باع بالدولار كرامة الأوطان، وصدَق مَن قال إنّ مِن الشِعر لحكمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق