الخميس، 4 نوفمبر 2010

مقالة بعنوان: (إنّ مِن الشِعر ِ لـَحِكمة) بقلم د. محمد الجاغوب

     إذا كنتَ ترضى أنْ تعيشَ بذلـّة            فـلا تستعــدنَّ الحُسامَ اليمانـيا
     و لا تستطيـلـنَّ الرمـاحَ لغــارة            و لا تستجيدنَّ العِتاقَ المَذاكيا        

البيتان السابقان لسيد شعراء العربية أبي الطيب المتنبي، ورَدا في قصيدة مشهورة خاطبَ بها كافور الإخشيدي، ومطلعها:

كفى بكَ داءً أنْ ترى الموتَ شافيا         و حَسْبُ المنايا أنْ يكنَّ أمانيا

و اختلفَ النقادُ في تأويل مَعانيها الظاهرة والضِمنية، فكثيرٌ منهم اعتبروا المديحَ الواردَ فيها لكافور ذمًّا مُبطـّنا له، وكان مِن عادة المتنبي أنْ يُطلقَ القصائدَ و يترك الناسَ يختلفون في تفسيرها، طِبقا لقوله:

أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها          و يَسهرُ الناسُ جرَّاها و يَختصموا

فالمتنبي بما يُعرفُ عنه مِن أنفة وعِـزة عربية يَرى أنّ شراءَ السلاح و اقتناءَه يليقُ بالأباة من الناس، ولا يليقُ بالأذلاء منهم، وهو يَعيبُ على مَن يسعى لاقتناء السيوف اليمانية والرماح الخطـّية والخيول الأصيلة مع انتفاء إرادة القتال لديه، و ارتضائه حياة الذل والمهانة، ويقول لذلك النوع من الناس: أرِحْ نفسَك ووفـِّرْ أموالك. ونراه في قصيدة أخرى يُخاطِبُ سيفَ الدولة الحمْداني بعدَ أنْ هزمَ الرومَ وقائدَهم الدُمستق:

إذا كانَ بعضُ الناس سيفـًا لدولة      فـفي الناسُ بوقاتٌ لها وطـُبولُ
وإنْ تكـن الـدولاتُ قِســمًا فإنـها      لِمَن وَرَدَ الموتَ الـزؤامَ تـدولُ

فهكذا هم القادة في رأي المتنبي، بعضُهم سيوفٌ بتارة تحمي ممالكـَها وأوطانـَها، وبعضُهم طبولٌ جوفاءُ تفهمُ الحُكمَ على أنـّه وجاهاتٌ ومظاهر، أسَفـارٌ واستقبالات، احتفالات وصولجانات، وإذا ما وقعت الواقعة وتعرّضتْ بلدانهم لخطـَر ٍ خارجي تراهم يُطلقون سيقانهم للريح هاربين، وللنجاة بأنفسهم طالبين، راضين بحياة الذلة والمهانة، وهم الذين كانوا أيام الرّخاء يتباهون باقـتناء السلاح وبمشاهدة التدريبات العسكرية، وبالتقاط الصور التذكارية بعدسات الصحفيين المنافقين. مثلُ هؤلاء القادة هم موضع سخرية المتنبي واستهزائه، وهم المَعنيّون بقوله: " فـفي الناسُ بوقاتٌ لها وطـُبولُ ".

و إذا أخذنا بالاعتبار عُمقَ ثقافة المتنبي وحِكمتـَه وخبرته بالنفس البشرية فإنّ أبياته تصْدقُ في نوع مِن الناس موجود في كل العصور والأزمان، فكثيرٌ مِن هؤلاء يدّعي ما ليس فيه، وينسبُ لنفسِه ضروبا من الحِكمة، و صنوفا من البطولة الزائفة التي لا تنطلي على أحد. (فمهما تكن عند امرئ مِن خليقة وإنْ خالها تخفى على الناس تُعْلـَم ِ).

وفي هذه الأيام نرى كثيرا مِن الأمم الضعيفة والدُوَل الصغيرة لا تمتلكُ زمامَ أمرها، تبدِّدُ ثرواتـِها في شراء أسلحة تفوق قدرتها على استيعابها، بذريعة حماية أوطانها أو تحرير المسلوب منها، وفي بضع ِ سنين لا تلبث تلك الأسلحة أنْ تصدأ في مخازنها، و تصبح بحاجة إلى تجديدٍ بأموال إضافية، يستفيد منها مُنتجو الأسلحة في إدارة عجلات مصانعهم، و في تشغيل عُمّالهم. ومن ثمّ تقوم بشراء صفقاتٍ جديدة بمبالغَ تفوق سابقاتها، وهكذا دواليك. فهل يَصْدُقُ قولُ أبي الطيب المتنبي في هذه الدُوَل ِايضا!!؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق