الأبنية الفنية للنص الشعري
الدكتور محمد الجاغوب - جامعة عمّان العربية
البناء الفكري والشعوري:
يشمل البناء
الفكري والشعوري مضمونَ القصيدة، وسمات الأفكار وما يكتنفها من سمو وصحة وعمق
وإقناع وتسلسل وترابط وتجديد وابتكار، وملامح المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها النص، ومنها:
-
المدرسة الاتـّباعية عند شوقي وحافظ والبارودي، والتي تقوم على الإحياء والبعث
وغلبة الخيال الجزئي والصور التقليدية التراثية، والالتزام بالوزن والقافية ووحدة
البيت والموضوع، على نحو ما نراه في قصائد (نكبة دمشق) لشوقي و(العمرية) لحافظ
وقصيدة (إباء) للبارودي، والعاطفة الإنسانية التي تتجلى من خلالها، كقول حافظ في
"العمرية":
ولم يَجُـــز بلدة إلا سمعتَ بها الله أكبر تدوي في نواحيــها.
وقول البارودي في (إباء):
وأقتـَلُ داء ٍ رؤية ُ العَيـن ظالمًــا يُسيءُ
ويُتلى في المحافل ِ حَمْدُهُ
عفاءٌ على الدنيا إذا المرءُ لم يَعِشْ بها
بَطـَلاً يَحمي الحقيقة َ شـَدُّهُ
-
المدرسة الابتداعية الرومنسية التي تدعو إلى الابتكار
والتجديد، ويكثر فيها تشخيص الطبيعة، ويظهر عُمق المعاناة، كما هو الحال عند نازك
الملائكة وخليل مطران وشعراء (أبولو) وجماعة (الديوان). فالمتأمّل
لقصيدة نازك الملائكة (الطفلة البائسة) يلمحُ الجدّة َ والابتكار في
تصويرها للضياع الإنساني المتمثـّل في صورة تلك الطفلة التي لم تجد مأوى لها؛ فافترشت
رصيف الشارع في ليل بهيم شديد البرد عاتي الريح وغزير المطر:
انتصف الليــلُ ومـلءُ الظلمة أمطارُ
وسكون رطبٌ يصرخ فيه الإعصارُ
الشارع مهجورٌ تـُعْــوِلُ فــيه الريـحُ
تتــوجّـعُ أعمــدة ٌ وتنــوحُ مصابيــحُ
في منعطف الشارع في ركن مقرور ِ
حرسَتْ ظـُلمتـُه شـُرفـة بيت مهـجورِ
كان البرقُ يمـرُّ ويكشفُ جسمَ صبـيّة
رَقـَدَتْ يلسعُها سَوط ُ الريح الشتوية.
فهذه
الصورة الحزينة تعكس ما تعانيه الشاعرة ذاتها من اضطراب داخلي.
البناء التعبيري، ويشمل:
-
الأساليبَ الإنشائية والخبرية كما في قول حافظ في
"العمرية":
سلْ قاهر الفرس والرومان هل شفعتْ له الفتوح وهل أغنى تواليها؟
وخالـــدٌ في سبيـل الله موقـــدها
وخالــــدٌ في سبيـــل الله صاليــــــها!
-
المصاحبات اللغوية كما في قوله:
ما واقعَ الرومَ إلا فرّ
قارحُها ولا رمى الفـرسَ إلا
طـاش راميــــها.
فلفظ (واقعَ) يستدعي اللفظ رمى، وكلمة راميها مرتبطة
بكلمة (رمى) لأنهما من محيط لغوي واحد، كما أن كلمة (الفرس) تاريخيا تستدعي كلمة
(الروم). وكما في قول إيليا أبي ماضي في قصيدة الطين:
وكسا الخــــزُّ جسمَـــه
فتباهى وحـــــوى المــالَ كيسُه
فتمــرّد.
فكلمة المال تستدعي كلمة الكيس.
-
الدقة والإيحاء، فأبيات نازك الملائكة تكثر فيها الألفاظ
الدالة على الحزن والخوف والوحشة والقلق والشكوى، وتكثر فيها الأفعال المضارعة
التي توحي بتجدد الحدث واستمراره، ومنها: يصرخ تتوجّع تنوح يلسع، وهي أفعال مبنية
للمعلوم لتوحي بأنّ أسبابَ المأساة واضحة ومفهومة.
وقصيدة شوقي (نكبة دمشق) فيها ما يدلّ على دقته في
انتقاء الألفاظ الموحية:
لحـــاها الله أنبــاء توالــت
على سمع الوليّ بمــا يشق.
فقد اختار لفظة أنباء ولم يقل أخبارا، واختار لفظة الولي
بدل الصديق.
-
التوكيد والتقديم والتأخير كقول حافظ:
فخالد كان يدري أنّ صاحبَه قد وجّه النفسَ نحو الله توجيها.
وقول شوقي:
فــفي القتــلى لأجيال حيــاة وفي الأسرى فــدى لهمُ وعِـــتقُ
-
التضمين، كمافي قصيدة (لن أبكي) لفدوى طوقان:
"على
أبواب يافا يا أحبائي، وفي فوضى حطام الدور بين الردم والشوكِ، وقفتُ وقلتُ
للعينين: قفا نبكِ!" تضمين من معلقة امرئ القيس (قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل
ِالخ).
" وكان هناك جمعُ البوم والأشباح، غريبَ
الوجه ِ واليدِ واللسان! تضمين من قصيدة (شعب بوان) للمتنبي ( ولكنّ الفتى العربيّ فيها غريبُ الوجهِ واليدِ
واللسان ِ).
-
ملاءمة الألفاظ لأحاسيس
الشاعر، ومن شواهدها قصيدة (إباء) للبارودي التي توحي أبياتها بعدم رضا الشاعر عن
تداعيات الأحداث في زمانه، فهو يعيش حالة سخط
على الفاسدين من الوصوليين الذين يتسللون إلى أعلى المراتب بنفاقهم وتزلفهم،
وقد دفـَعَهُ انفعاله لانتقاء ألفاظ مثل (وضيع، وغد، ثعالة) لتناسب أحاسيسَه المستفزّة؛ فيقول:
أبى الدهرُ إلا أنْ يسودَ
وضيعُهُ ويملكَ أعطافَ المطالبِ
وَغـْدُهُ
تداعتْ لدركِ الثــأرِ فينا
ثـُعـالة ٌ ونامتْ على طول الوتيرة
أسْدُهُ
البناء التصويري، ويشمل:
-
الصورة الكلية المتمثلة في تجسيم الفكرة وتعميق الإحساس
العاطفي من خلال صورة شعرية تمثل مشهدا حسيا خارجيا أو جوا نفسيا داخليا، ويتم ذلك
عن طريق الرسم بالكلمات التي تعبر عن حالة الشاعر، ومن أمثلة ذلك ما قاله الهمشري
في وصف قريته وقد لفـّها المساءُ شتاءً:
وقد نسجتْ أيــدي الشتاء سياجَـها عليــها وأسوارُ الظــلام تحاصــرُ
وقـد خرجَ الخفاشُ يهـمسُ للـدجى ودبَّ على الشط الهــوام النـواقـرُ
وطارتْ من الجمّيز تصرخُ
بومةٌ على صوت هرٍّ في الدجى
يتشاجرُ
وقـد أوقـدَتْ كـلّ المـآذنِ
نورَهـــا ولاحــتْ على البعــد مني
المقابـرُ
فالصورة
الكلية في أبيات الهمشري تضمّ عددا من الصور الجزئية التي تجمع بين المرئي
والمحسوس، وبين اللون والصوت والحركة، فالخفاش يهمس، والهوام تدبّ على الشط،
والبومة تطير وتنعب، وهذه الصور الجزئية المزعجة تعكس الحالة النفسية المتشائمة
والكئيبة للشاعر.
-
الصورة الجزئية، وتضمّ التشبيه والاستعارة والكناية.
فمن التشبيه قولُ
حافظ إبراهيم عن خالد بن الوليد وقد أتاه قرار العزل العُمَريّ عن قيادة اليرموك:
أتاهُ أمــــرُ أبي حفص فقبّــــله
كمــا يُقبّـــلُ آيَ الله تاليـــها.
فقد شبّه الشاعر تقبيل خالد لكتاب الفاروق بتقبيل مَن
يتلو كتاب الله للمصحف الشريف، بجامع الاحترام والتقديس والطاعة في الحالين.
ومن الاستعارة قوله:
يرمي الأعادي بآراء مسددة وبالفوارس
قد سالت مذاكيها.
فقد شبّه خطة
خالد وآراءَهُ بالسهام النافذة، وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو (يرمي)
على سبيل الاستعارة المكنية، كما شبه الخيل في تدفقها بالسيل، وحذف المشبه به وترك
شيئا من لوازمه وهو (سالت).
أمّا الكناية فهي ألفاظ أطلقتْ وأريدَ لازمُ معناها، ففي
قول شوقي: (للحرية الحمراء بابٌ) كناية عن التضحية. وفي قول الشابي: (كفـُّكَ
مخضوبة) كناية عن إراقة المستعمر لدماء الشعوب.
-
تراسل الحواس، أو ما يُعبّرُ عنه بإعطاء مُدرَكات حاسّة
لحاسة أخرى، ومثال ذلك ما يُقال في الشعر الحديث من مصطلحات كالَنـَغَم الناعم
واللحن الأبيض، والأغنية المُعطرة. وفي
قول الجاغوب: (أشمّ بصوتك زهرَ الروابي) شيءٌ من هذا القبيل، فقد جُعِلَ الشمُّ
بالصوت، والأصل: أشمّ برائحتكِ زهرَ الروابي، أو أسمع بصوتك حفيف أوراق الشجر؛
لأنّ الشمّ للرائحة والسمع للصوت. ومنه قول الهمشري:
جفوني ذكريات حلوة من عطرك القمري والنغم ِ
فقد استعمل للعطر المشموم صفة مرئية هي القمرية الدالة
على الإشراق.
-
التشخيص، وهو إكساب الجماد وما في حكمه بعض صفات
الأشخاص، أي خلعُ الحياة على الشيء غير الحيّ. ومنه في شعر الهمشري:
فنسيمُ المساء يسرق عطرا من رياض سحيقة في الخيال ِ
ووراء السياج زهـرة ُ
فـُلٍّ غازَلـَتـْـها أشعــة ٌ فـي
المساء ِ
فالشاعر يجعلُ من النسيمَ لصّـا يسرق، ويجعل
من شعاع الشمس عاشقا يُغازل.
-
التجسيم، وهو نقل المعنوي إلى صورة المحسوس، ومن شواهد
ذلك عند إبراهيم ناجي:
ذوَت الصبابَة ُ وانطوتْ وفـَرَغـْتُ من آلامِها
عــادتْ إليّ
الــذكـرياتُ بحشدِهــا وزحــامِها
فالصَبابة المُجرّدة في لغة الشاعر تذوي كالنبات وتنطوي
كالبساط، والذكريات معنوية هي الأخرى ولكنها تحتشد وتتزاحم.
-
اللوحات الفنية المركبة الشاملة لعدد من العناصر اللونية
والحركية والسمعية والشميّة، ومنها في قصيدة نازك الملائكة: (تـُعْوِلُ فيه
الريح)، (تنوحُ مصابيح) صُوَر صوتية. (البرق، الفجر، الظلمة، مصابيح) صُوَر
بَصَرية. (سكون رطب، أرض رطبة، رقدتْ فوق رخام الأرصفة الثلجية) صُور لمسية. ومنها
عند فدوى طوقان: (جفني راعش) (يُحوّمُ في حواشيها) (يمدّ أصولـَه فيها) صُوَرٌ
حركية.
-
الصورة الخيالية، ومن ملامحها الفنية أن تقوم العلاقة
بين أجزاء الصورة على الأثر النفسي لا على التشابه الشكلي، فليست الصورة الفنية هي
التي تتملاها العين أو الأذن، ولكنها الصورة التي تتفاعل مع الفكر والوجدان، فابن
المعتز حينما يصف لنا الهلال:
انظر إليه كزورق ٍ من فضة قد أثقلته حمولة من عنبَر ِ
لا يُعَبِّرُ عن شعور صادق نحو جمال الهلال؛ لأنّ
العلاقة التي رسمها بين الهلال وزورق الفضة تقوم على الشكل، وهي صورة تنبئ بخيال
ضعيف، وأبلغ ُ منه إبراهيم ناجي إذ يقول:
والصوتُ يعزفُ كالرياح والهمسُ ينزفُ كالجراح.
فليس بين الهمس والجراح علاقة في الشكل، ولكنه يترك في
النفس أثــَرا داميا.
ومن ملامح الصورة الخيالية أيضا أنها تتلاءَمَ وأحاسيسَ
الشاعر وأفكارَه التي يهجسُ بها، فالحياة التي يحلم بها أنس داود في ظلّ أسرة
سعيدة تلوح من بين كلماته التي يرسم بها صورة طفلة صغيرة تركض نحو مدرستها في
الصباح كأنّها ألحانُ أغنية تـُشنّفُ أذنيه، وجناحها مُرقــّش كأنما هي حمامة
وديعة تطير من أمامه، (جناحها يضمّ في اعتداد كراسة صغيرة ومِسطرة)، ترى كم تثير
فينا كلمة (اعتداد) من اعتزاز طفولي! وإلى أيّ حدّ تصلُ سعادتنا والشاعرُ يُعيدنا لطفولتنا
البريئة عندما كنا نطبق أيدينا على قرش وحيد وكأنّه جوهرة نادرة!، وكم كان الشاعر
بارعا في اختيار كلمة (الوحيد) ليصف بها القرش مع ما تصوّره من بُعْد اقتصادي
متواضع لحياة الناس آنذاك؟:
تمرُّ من هنا، أغنية تطير.
توزع السنا توزع العبير.
جناحها مرقش وخطوها حرير.
وشعرها مُموّج كأنه غدير.
وراقص على الجبين تارة، وتارة
مهاجرٌ يطير.
جناحها يضمّ في اعتداد كراسة
صغيرة ومِسطرة
وصورة لارنباد وقرشها الوحيد
أطبقتْ عليه كفـُّها
كجوهرة.
يا زهرة الصباح إنْ مرّ صبحٌ
دون أن أراك أسيرُ واهن الجناح
أسير في عينيّ حزنُ طائر يعود
فلا يرى في العش فرخـَه الوليد
لكنني على الطريق لم أجد تلك
التي أدقّ بابها الحنون عندما يُداهم المساءُ غـُربتي!!)
ماذا لو
مرّ صُبحٌ ولم يرَ الشاعر تلك الطفلة؟! سينكسرُ أمله ويعتريه الحزن مثل طائر فقد
فرخه الصغير، لقد نجح الشاعر في تجسيم أفكاره وعواطفه في صُوَر جزئية تآزرتْ جميعها لتقدّم لنا صورة كلية موحية
ومؤثرة..
البناء الموسيقي:
يبعث الشعر الموزون إيقاعا تطربُ له الأذن، ومصدر هذا
الإيقاع انتظامُ التفعيلات وانسيابُها، وتعاقب القوافي وانسكابها، وهذا ما يُعرف بالموسيقا
الخارجية أو بالوزن والقافية. أمّا الموسيقا الداخلية فهي نسَق التعبير وانتقاء
الشاعر للألفاظ، وانسجام الكلمات وتناغمها، ومن مظاهرها:
-
حُسن التقسيم، وهو توزيع العبارات توزيعا موسيقيا
متناسقا، كقول شوقي: (يَدٌ سلفَتْ) (دَينُ مُستحقّ) (ففي القتلى) (وفي الأسرى).
وفي قول الشابي: (حبيبَ الظلام) (عدوّ الحياة). وقول فدوى طوقان: (وجفني راعشق
مبلول) (وقلبي يائسٌ مخذول).
-
التصريع وهو اتفاق نهاية شطري البيت (العروض والضرب) في
في حرف الرويّ، وغالبا ما يكون في مطالع القصائد كقول شوقي:
سلامٌ مِن صَبا بردى أرقُّ ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ.
-
الترصيع أو ما يُعرف بالتقفية الداخلية كقول الجاغوب:
أين
المبادئ والأهـداف والمُثـُلُ أين
الرفاق وأين الفتية النُجُبُ.
هل طابَ نومُهمُ أم غابَ نجمُهمُ أم ضـلّ سعيُهمُ أم نالهم تعَـبُ؟
-
ردّ العجز على الصدر كما في قول شوقي:
ومن يسقي ويشرب بالمنايا إذا الأحرار لم يُسقَوا ويَسقوا.
إنّ العمل الأدبي رسالة ورؤية، وهو يولد نتيجة تفاعلات
الأديب مع الواقع الذي يعيشه، ونتيجة انفعالات نفسية داخلية معقدة تمور بها النفس
البشرية، فالتفسير النفسي للأدب باتَ موضع اهتمام النقد المعاصر؛ ولذلك ينبغي أن
تتهيّأ لدارسي الأدب ومُدرّسيه ذائقة مرهفة، ومَعْرفة لغوية متعمقة بقواعد اللغة
وأساليب الكتابة، ودُربَة ٌ ومرانة في القراءة والتأمّل والتحليل والمقارنة والربط
والاستنتاج والتعميم. ومهمّة مُدرس الأدب على وجه الخصوص ينبغي لها أنْ تنتقل من
الوقوف عند ظواهر الأشياء إلى الغوص في أعماقها، ومن الاكتفاء بالنظرة الجزئية
الضيقة للظاهرة الأدبية إلى النظرة الشمولية ذات الأبعاد المتعددة، على أن يتم ذلك
في إطار الوحدة العضوية للنص، والتعامل مع العمل الأدبي ومبدعِيه بحيادية وإنصاف
بعيدا عن الشخصنة والتحامل. والانطلاق من مبدأ أنّ الأدب العربي يمثل وجها مشرقا
للغة العربية، وشاهدا حضاريّا حيّّا على جلالها وعظمتها، وعلى تفرّد العرب بهذه
المزية الشريفة بين الأمم.