المتاجرة بقميص الحريري
د. محمد الجاغوب
لم تحظ قضية اغتيال سياسي في الساحة اللبنانية خاصة والعربية عامة، بمثل ما حَظيتْ به قضية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، فهذه القضية تتفاعل يوماً بعد يوم، وتتطورُ أحداثها بشكل دراماتيكي، تارة بالتظاهرات والاعتصامات والدعوات إلى تدويل القضية، وتارة بلجان التحقيق المُهيمَن عليها أمريكياً إلى ما يُسمّى بالمحكمة الدولية، تلك المحكمة التي لا تحمل من صفات القانون الدولي غير اسمها، أما حقيقتها فهي في الواقع سياسية بحتة. وما مِن شك ٍ في أن َّهذه المحكمة مُسَيّسَة شأنُها شأن المحاكم الصورية التي حاكمت القيادة العراقية السابقة. مَحاكمُ تم تشكيلها بإرادة أمريكية ودعم أمريكي، ليس حُبّا في رفيق الحريري ولا حُبا في دماء الأبرياء من الشعب العراقي بقدر ما هو انتقام وتحجيم للقوى الوطنية العربية في بغداد ودمشق وبيروت لأنها ترفض الاعتراف بإسرائيل وترفض التطبيع معها.
لقد شهدَ لبنانُ عدداً كبيراً من الاغتيالات السياسية على مرّ العقود الماضية قبل الحريري، فقد اغتيل من رؤساء الوزارات اللبنانية كل من رياض الصلح ورشيد كرامي، واغتيلَ من رؤساء الجمهورية المُنتخبين كل مِن بشير الجمَيّل ورينيه معوض، واغتيل زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، ومفتي لبنان الشيخ حسن خالد، والعلامة صبحي الصالح، ومعروف سعد وغيرهم من السياسيين الكثير ، ناهيك عن اغتيال عدد آخر من الإعلاميين اللبنانيين وبعض الشخصيات القيادية العربية المقيمة على أرض لبنان.
لم تثـُرْ ثائرة أحد لأجل هؤلاء، ولم تتفاعل قضاياهم طويلاً، وقد شغلتْ كلٌ منها وسائلَ الإعلام لفترة وجيزة، ثم طويتْ وحُفظتْ ملفاتها ورانَ عليها النسيان. لقد أخذتْ قضية اغتيال الحريري زخماً إعلامياً لأن الذين خططوا لها ونفـّذوها أرادوها كذلك، وأرادوا توظيفـَها لخدمة مآربهم الشريرة وأطماعهم في الأرض العربية، وسَعْيهم الدائم لتوفير حزام آمِن ٍ للدولة العبرية، ودَرْء آخر معاقل الخطر العربي التي قد تهدد كيانها في يوم من الأيام.
إن المتتبع لخريطة الأحداث لا يحتاج لعقل أفلاطون ليكتشف أبعاد هذه المؤامرة الهادفة إلى سَلخ ِ لبنان عن عُمقه العربي، وضرْب قلعة الصمود السورية التي استعصت حتى الآن على التطويع والتركيع والتطبيع. إنّ مُدبري هذه المؤامرة يخلقون المبررات لضرْب سوريا وإسقاطها بتهم عديدة منها: دعم المقاومة العراقية ودعم المقاومة الفلسطينية والعَبَثِ بأمن لبنان وانتهاك حقوق الإنسان، وغيرها من التهم الباطلة والمفضوحة الأهداف. إنّ عداءَهم الحقيقي لسوريا ناجم ٌعن رفض سوريا السير في طريق المصالحة مع إسرائيل والاعتراف بها ووقوفها وراء إسقاط اتفاق 17 أيار اللبناني المعروف، ولذلك فقد سخّروا لحملتهم شراذمَ المنشقين والخارجين على قانون الدولة السورية من المعتصمين بعواصم الامبريالية في أوروبا والولايات المتحدة، وسخّروا التيارات اللبنانية المشبوهة، والمضللة بالمال والإعلام، وسخّروا الأقلام المعروفة بعدم انتمائها للأمة العربية والوطن العربي.
لماذا كل هذا الانزلاق الخطر من قبل تيارات لبنانية يَمِينية نحو مخاصمة سوريا والمقاومة اللبنانية، والوقوف في الخندق المعادي لهما وللأمة العربية، ليس غريباً على التيارات اليمينية المحافِظة اتخاذ مثل هذه المواقف، رغم ما لسوريا عليها من جمائل ورغم ما للمقاومة اللبنانية من فضل تحرير وتطهير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي وأذنابه وعُملائه، لكنّ المدهش أن يصطـّفَ في هذا الخندق بعضُ رفاق الأمس من تقدميين وقوميين ويساريين وبعثيين مُنشقين، أتمنى ألا يبدأ عقد المسبحة بالانفراط في زمن تتكالب فيه قوى الشر، وتحشد كل ما أوتيتْ من قوة المال والسلاح والإعلام.
إن الذين رفعوا قميصَ الحريري وطافوا به في الأقطار مُطالبين بدمِه ليس لديهم إجماع على حُبّ رفيق الحريري، وكلُّ ما يجمعهم هو مصالحهم الشخصية والعداء للأمة العربية، وما تباكيهم على الحريري إلا ضَرْبٌ من بكاء التماسيح أو ضرب من بكاء الندّابات والنائحات اللواتي عُرفن في العصر الجاهلي بالتباكي على الميت لقاء أجر معلوم .
إن الجماهير العربية الغيورة على شرف الأمة ومصلحة الوطن، من الذين يحملون بين جوانحهم المشروع القومي العربي وحتى أولئك الذين يحملون على عاتقهم المشروع الإسلامي كلُّ هؤلاء لن يسمحوا للمُرجفين والمارقين والمأجورين بسَلِّ حِرابهم لطعن جسد الأمة ومصالحها ومستقبلها، إنّ هؤلاء الشرفاء جميعا مَدعوّون اليوم إلى التيقظ للمخططات المعادية وفضحِها والتوحد لمواجهتها، ودَرْء الخطر الذي يُهددُ الوطن العربي والمستقبل العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق